فصل: تفسير الآيات (230- 232):

مساءً 4 :19
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
18
الخميس
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (230- 232):

{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)}
قوله تعالى: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ...} الآية: قال ابنُ عَبَّاس وغيره: هو ابتداء الطلْقةِ الثالثةِ؛ قال * ع *: فيجيء التسريحُ المتقدِّم ترك المرأة تتمُّ، عِدَّتها من الثانية، وأجمعتِ الأُمَّةُ في هذه النازلةِ على اتباع الحديثِ الصحيحِ في امرأة رِفَاعَةَ، حِينَ تزوَّجت عبْدَ الرحمنِ بْنَ الزَّبِيرِ، فقال لها النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَعَلَّكِ أَرَدتِّ الرُّجُوعَ إلى رِفَاعَةَ، لاَ؛ حتى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ، وَتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ»؛ فرأَى العلماء أنه لا يُحِلُّها إِلا الوطءُ. وكلُّهم على أن مَغِيبَ الحَشَفة يُحِلُّ إِلا الحسنَ بْنَ أبي الحَسَن، قال: لا يحلُّها إِلا الإِنزال، وهو ذَوْقُ العُسَيْلَةَ، والذي يُحِلُّها عند مالك النكاحُ الصحيحُ، والوطْء المُباح.
وقوله تعالى: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله...} الآية: المعنى: فإِنْ طلَّقها المتزوِّج الثَّاني، فلا جُنَاح عليهما، أي: المرأة والزوج الأول. قاله ابن عَبَّاس، ولا خلاف فيه، والظنُّ هنا على بابه من تغليبِ أحد الجائزَيْن، وخص الذين يعلمون بالذكْر تشريفاً.
وقوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء...} الآية: خطابٌ للرجالِ، نُهِي الرجُلُ أن يطول العدَّة، مضارَّةً لها؛ بأن يرتجع قرب انقضائها، ثم يطلِّق بعد ذلك؛ قاله الضَّحَّاك وغيره، ولا خلاف فيه.
ومعنَى: {بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}: قاربْنَ؛ لأنه بعد بلوغ الأجل لا خيار له في الإِمساك، ومعنى: أمسكوهنَّ راجِعُوهنَّ- و{بِمَعْرُوفٍ}: قِيلَ: هو الإِشهاد- {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ}، أي: لا تراجعوهنَّ {ضِرَارًا}، وباقي الآية بَيِّنٌ.
وقوله تعالى: {وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيات الله هُزُوًا...} الآية: المرادُ بآياته النازلَةُ في الأوامر والنَّواهِي، وقال الحسن: نزلَتْ هذه الآية فيمَنْ طَلَّق لاعباً أو هازئاً، أو راجَعَ كذلك.
وقالتْ عائشةُ: قال رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: «ثَلاَثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلاَقُ، وَالرَّجْعَةُ». ثم ذَكَّرَ اللَّه عباده بإِنعامه سبحانه علَيْهم بالقرآن، والسُّنَّة، و{الْحِكْمَةِ}: هي السُّنَّة المبينة مرادَ اللَّه سبحانه.
وقوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ...} الآية: خطابٌ للمؤمنين الذين منْهم الأزواج، ومنهم الأولياءُ؛ لأنهم المراد في تَعْضُلُوهنَّ، وبلوغ الأجلِ في هذا الموضِعِ تناهِيهِ؛ لأن المعنى يقتضي ذلكَ.
وقد قال بعضُ النَّاسِ في هذا المعنى: إِن المراد ب {تَعْضُلُوهُنَّ}: الأزواجُ؛ وذلك بأن يكون الاِرتجاعُ مضارَّة؛ عضْلاً عن نكاحِ الغَيْر، فقوله: {أزواجهن}؛ على هذا، يعني به: الرجالَ؛ إِذ منهم الأزواج، وعلى أن المراد ب {تَعْضُلُوهُنَّ} الأولياءُ، فالأزواج هم الذين كُنَّ في عصمتهم.
وَالعَضْل: المَنْع وهو من معنى التضْييقِ والتعسيرِ؛ كما يقال: أعْضَلَتِ الدجاجَةُ، إِذا عَسُر بيضُها، والدَّاء العُضَال: العسيرُ البرءِ، وقيل: نزلَتْ هذه الآيةُ في مَعْقِل بْنِ يَسَارٍ، وأخته، لما طلَّقها زوجها، وتمَّتْ عدَّتُها، أراد ارتجاعها، فمنعَهُ وليُّ المرأة، وقيل: نزلَتْ في جابِرِ بنِ عبدِ اللَّهِ، وأختِهِ.
وهذه الآيةُ تقتضي ثبوتَ حَقِّ الولي في إِنكاح وليَّته، وقوله: {بالمعروف}: معناه: المهر، والإِشهاد.
وقوله تعالى: {ذلك يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ} خطابٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ثم رجُوعٌ إِلى خطابِ الجَمَاعة، والإِشارة في {ذلكم أزكى} إِلى ترك العَضْل، و{أزكى... وَأَطْهَرُ}: معناه: أطيبُ للنفْسِ، وأطهر للعِرْضِ والدِّين؛ بسبب العلاقاتِ التي تكونُ بين الأزواجِ، وربَّما لم يعلمها الوليُّ، فيؤدِّي العَضْلُ إِلى الفسادِ، والمخالطةِ؛ على ما لا ينبغِي، واللَّه تعالى يعلَمُ من ذلك ما لا يعلَمُ البَشَر.

.تفسير الآية رقم (233):

{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)}
قوله تعالى: {والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} {يُرْضِعْنَ أولادهن}: خبر معناه الأمرُ على الوجوب لبَعْضِ الوالداتِ، وعلى الندْبِ لبعضهنَّ، فيجب على الأمِّ الإِرضاع، إِن كانَتْ تحت أبيه، أو رجعيَّةً، ولا مانع من عُلُوِّ قدْرٍ بغير أجر، وكذلك إِن كان الأبُ عديماً، أو لم يقبلِ الولَدُ غيرها.
وهذه الآياتُ في المطلَّقات جعَلَها اللَّه حدًّا عند اختلاف الزوجَيْن في مدَّة الرَّضَاع، فمَنْ دعا منهما إِلى إِكمالِ الحَوْلَيْنِ، فذلك له.
وقوله تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} مبنيٌّ على أن الحولَيْن ليسا بفَرْض، لا يُتَجَاوَزُ، وانتزع مالِكٌ- رحمه اللَّه- وجماعةٌ من العلماء من هذه الآيةِ؛ أنَّ الرضاعةَ المحرِّمة الجاريةَ مَجْرى النَّسَبِ، إِنما هي ما كان في الحولَيْن؛ لأنَّ بانقضاء الحولَيْنِ، تمَّتِ الرَّضَاعة، فلا رضَاعَة.
* ت *: فلو كان رضاعُه بعد الحولَيْن بمدَّة قريبة، وهو مستمرُّ الرضاعِ، أو بعد يومَيْن من فِصَالِهِ- اعتبر، إِذ ما قارب الشيْءَ فله حكمه. انتهى.
وقوله تعالى: {وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ...} الاية: المولودُ له: اسم جنْسٍ، وصنْفٌ من الرجال، والرِّزْقُ في هذا الحكم: الطعامُ الكافِي.
وقوله: {بالمَعْرُوفِ} يجمع حُسْن القَدْر في الطعام، وجَوْدَةَ الأداء له، وحُسْنَ الاقتضاء من المرأةِ.
ثم بيَّن سبحانه؛ أنَّ الإِنفاق على قدر غِنَى الزوْجِ بقوله: {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا}، وقرأ أبو عمرو، وابن كَثِيرٍ، وأبانُ عن عاصمٍ: {لاَ تُضَارُّ وَالِدَةٌ}؛ بضم الراء، وهو خبر، معناه الأمر، ويحتمل أن يكون الأصلُ: لاَ تُضَارِرُ؛ بكسر الراءِ الأولى، ف {وَالِدَةٌ} فاعلةٌ، ويحتمل بفَتْح الرَّاء الأولى، ف {وَالِدَةٌ}: مفعولٌ لم يسمَّ فاعله، ويعطف {مولود له} على هذا الحدِّ في الاحتمالين، وقرأ نافعٌ، وحمزةُ، والْكسَائِيُّ، وعاصمٌ: لاَ تُضَارَّ؛ بفتح الراء، وهذا على النهْيِ، ويحتمل أصله ما ذكرنا في الأولى، ومعنى الآية في كلِّ قراءة: النهْيُ عن الإِضرار، ووجوهُ الضَّرَرِ لا تنحصرُ، وكل ما ذُكِرَ منْها في التفاسير، فهو مثالٌ.
* ت *: وفي الحديثِ: «لاَ ضَرَرَ، وَلاَ ضِرَارَ»، رواه مالكٌ في الموطإ مرسلاً.
قال النوويُّ في الحِلْية: ورويناه في سُنَن الدَّارَقُطْنِيِّ وغيره من طرقٍ متصلاً، وهو حسن انتهى.
وقوله تعالى: {وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك} قال مالكٌ، وجميع أصحابه، والشَّعْبِيُّ، والزُّهْرِيُّ، وجماعةٌ من العلماء: المرادُ بقوله: {مِثْلُ ذلك}: أَلاَّ يُضَارَّ، وأمَّا الرزقُ، والكُسْوة، فلا شيء علَيْه منه، قال * ع *: فالإِجماع من الأُمَّة في ألاَّ يُضَارَّ الوارثُ، وإِنَّما الخلافُ، هل عليه رزقٌ وكُسْوَة أم لا؟
وقوله تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً...} الآية: أي: فإِن أراد الوالَدانِ، وفِصَالاً: معناه: فِطَاماً عن الرَّضَاع.
وتحرير القول في هذا: أن فَصْله قَبْل الحولَيْن لا يصحُّ إلا بتراضيهما وألاَّ يكونَ على المولودِ ضَرَرٌ، وأمَّا بعد تمامهما، فمن دعا إِلى الفَصْل، فذلك له إِلاَّ أن يكون في ذلك علَى الصبيِّ ضَرَرٌ.
وقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أولادكم} مخاطبة لجميعِ النَّاسِ، يجمع الآباءَ والأمهاتِ، أي: لهم اتخاذُ الظِّئْر، مع الاتفاقِ على ذلك، وأما قوله: {إِذَا سَلَّمْتُم}، فمخاطبةٌ للرجال خاصَّة إِلا عَلَى أحد التأويلَيْن في قراءة مَنْ قرأ: {أُوتِيتُمْ}، وقرأ السِّتَّة من السبعةِ: {آتَيْتُمْ}؛ بالمدِّ؛ بمعنى أَعْطَيْتم، وقرأ ابن كثير: {أَتَيْتُمْ}؛ بمعنى: فعلتم؛ كما قال زُهَيْرٌ: [الطويل]
وَمَا كَانَ مِنْ خَيْرٍ أَتَوْهُ فَإِنَّمَا ** تَوَارَثَهُ آبَاءُ آبائِهِمْ قَبْلُ

فأحد التأويلين في هذه القراءة كالأول، والتأويل الثَّاني لقتادَةَ، وهو إِذا سلَّمتم ما آتيتم من إِرادة الاِسترضاع، أيْ: سلم كلُّ واحدٍ من الأبوين، ورضي، وكان ذلك عَلَى اتفاقٍ منهما، وقَصْدِ خَيْرٍ، وإِرادةِ مَعْروفٍ، وعلى هذا الاِحتمال يدخلُ النساءُ في الخطاب.
* ت *: وفي هذا التأويل تكلُّف.
وقال سفيانُ: المعنى: إِذا سلَّمتم إِلى المستَرْضعة، وهي الظِّئْر أَجْرَها بالمَعْروف.
وباقي الآية أمْرٌ بالتقْوَى، وتوقيفٌ على أن اللَّه تعالى بصيرٌ بكلِّ عمل، وفي هذا وعيدٌ وتحذيرٌ، أي: فهو مُجازٍ بحَسَبِ عَمَلِكُم.

.تفسير الآية رقم (234):

{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)}
وقوله تعالى: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ} هذه الآيةُ في عدَّة المتوفى عنها زوجُها، وظاهرها العمومُ، ومعناها الخصوصُ في الحرائرِ غيْرِ الحَوَامِلِ، ولم تعن الآية لما يشذُّ من مرتابةٍ ونحوها، وعدَّة الحَامِلِ: وضْعُ حملها؛ عند الجمهور.
ورُوِيَ عن عليٍّ، وابن عبَّاس: أقصَى الأجلَيْن، وَيَتَرَبَّصْنَ: خبر يتضمَّن معنى الأمر، والتربُّص: الصبْر والتأنِّي.
والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم متظاهرة أن التربُّص بإِحْدَادٍ، وهو الامتناع عن الزينة، ولُبْس المَصْبُوغ الجميلِ، والطِّيب، ونحوه، والتزامِ المَبِيتِ في مَسْكنها؛ حيث كانَتْ وقت وفَاة الزَّوْج، وهذا قولُ جمهورِ العُلَماء، وهو قولُ مالكٍ، وأصحابه، وجعل اللَّه تعالى {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} عبادةً في العِدَّة فيها استبراء للحَمْل؛ إِذ فيها تكمل الأربعون، والأربعون، والأربعون؛ حسب الحديثِ الَّذي رواه ابن مَسْعود وغيره، ثم ينفخ الرُّوحُ، وجعل تعالى العَشْر تكملةً؛ إِذ هي مَظِنَّةٌ لظهورِ الحركةِ بالجنينِ، وذلك لنقْصِ الشهور، أو كمالها، أو لسُرْعة حركةِ الجنين، أو إِبطائها.
قاله ابن المُسَيِّب، وغيره.
وقال تعالى: {وَعَشْرًا}؛ تغْليباً لحكْم الليالِي، وقرأ ابن عَبَّاس: {وَعَشْرَ لَيَالٍ}، قال جمهور العلماء: ويدخل في ذلك اليَوْمُ العَاشِر.
وقوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بالمعروف والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}: {فِيمَا فَعَلْنَ}: يريدُ به التزوُّجَ، فما دونَهُ من زينةٍ، واطراح الإِحداد؛ قاله مجاهد وغيره، إِذا كان مَعْرُوفاً غيْرَ منكر.
قال * ع *: ووجوه المُنْكَر كثيرةٌ، وقوله سبحانه: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} وعيدٌ يتضمَّن التحذيرَ، و{خَبِيرٌ}: اسم فاعلٍ مِن {خَبَرَ}، إِذا تَقَصَّى علْم الشيء.

.تفسير الآية رقم (235):

{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)}
وقوله تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء...} الآية: تصريحُ خطبةِ المعتدَّة حرامٌ، والتعريضُ جائزٌ، وهو الكلام الذي لا تصريحَ فيه، {أَوْ أَكْنَنتُمْ}: معناه: سترتم، وأخفيتم.
وقوله تعالى: {سَتَذْكُرُونَهُنَّ} قال الحَسَن: معناه: ستخطُبُونَهُنَّ، وقال غيره: معناه: علم اللَّه أنكم ستذكُرونَ النِّسَاء المعتدَّاتِ في نفوسكم وبألسنتكُمْ، فنهى عن أنْ يوصل إِلى التواعُدِ معَهُنَّ.
* ع *: والسرُّ، في اللغة: يقع على الوَطْء حلالِهِ وحرامِهِ، والآية تعطي النهْيَ عن أنْ يواعد الرجُلُ المعتدَّةَ؛ أن يطأها بعد العدَّة بوجْه التزويجِ، وقال ابن جُبَيْر: {سِرًّا}، أيْ: نكاحاً، وهذه عبارة مخلصة.
وأجمعتِ الأمة على كراهةِ المواعَدَةِ في العدَّةِ.
وقوله تعالى: {إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا} استثناءٌ منقطعٌ، والقولُ المعروف هو ما أبيح من التعريض؛ كقول الرجُل: إِنَّكم لأَكْفَاءٌ كِرَامٌ، وما قُدِّرَ كَانَ، ونحو هذا.
وقوله تعالى: {وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النكاح حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ}: عزمُ العقدةِ: عَقْدها بالإِشهاد، والوليِّ، وحينئذ: تسمى عُقْدة.
* ت *: والظاهر أن العَزْم غَيْرُ العقد، وقوله تعالى: {حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ}: يريد تمام العدَّة، والكتاب هنا هو الحدُّ الذي جُعِل، والقَدْر الذي رُسِمَ من المدَّة، وقوله: {واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فاحذروه...} الآية: تحذيرٌ من الوقوع فيما نهى عْنه، وتوقيفٌ على غَفْره وحِلْمه.

.تفسير الآيات (236- 237):

{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)}
وقوله تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} هذا ابتداءُ إِخبارٍ برفع الجُنَاحِ عن المُطَلِّق قبل البِنَاءِ والجِمَاعِ، فَرَض مَهْراً أو لم يَفْرِضْ، ولمَّا نهى رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن التزوُّج لمعنَى الذَّوْقِ، وقضَاءِ الشَّهْوةِ، وأمر بالتزوُّج، طلباً للعصْمَة، والتماس ثَوَابِ اللَّهِ، وقَصْدِ دوامِ الصُّحْبَةِ، وقع في نُفُوسِ المؤمنِينَ؛ أنَّ من طلَّق قبل البناء قد واقع جزءاً من هذا المكروه، فنزلَتِ الآية رافعةً للجُنَاحِ في ذلك، إِذا كان أصْل النَّكاح علَى المَقْصِد الحَسَن.
وقال قَوْمٌ: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}: معناه: لا طَلَبَ لجميعِ المَهْر، بل عليكُمْ نصْفُ المفروض لِمَنْ فرض لها، والمتعةُ لمن لم يُفْرَضْ لها، وفَرْضُ المهرِ: إثباتُه، وتحديدُهُ، وهذه الآية تُعْطِي جوازَ العَقْد على التفْويض؛ لأنه نكاحٌ مقرَّر في الآية، مُبَيَّنٌ حكْمُ الطلاق فيه؛ قاله مالك في المدوّنة.
والفريضَةُ: الصداق.
وقوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ}. أي: أعطوهنَّ شيئاً يكون متاعاً لهنَّ، وحمله ابن عُمَر وغيره على الوجُوبِ، وحمله مالكٌ وغيره على الندْبِ، واختلف النَّاس في مقدارِ المُتْعة، قال الحَسَن: يمتَّع كلٌّ على قدْره، هذا بخادم، وهذا بأثوابٍ، وهذا بثوبٍ، وهذا بنفقةٍ، وكذلك يقول مالك.
وقوله تعالى: {عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ}: دليلٌ على رفض التحديد، والمُوسِعُ: أي: من اتسع حالُه، والمُقْتِر: المقلُّ القليلُ المالِ، و{متاعا}: نصبٌ على المصدر.
وقوله تعالى: {بالمعروف}، أي: لا حمل فيه، ولا تكلُّف على أحد الجانبَيْنِ، فهو تأْكيدٌ لمعنى قوله: {عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ}، ثم أكَّد تعالى الندْبَ بقوله: {حَقًّا عَلَى المحسنين}، أي: في هذه النازلةِ من التمتيعِ هُمْ محسِنُون، ومن قال؛ بأنَّ المتعةَ واجبةٌ، قال: هذا تأكيدٌ للوجوب، أي: على المحسنينَ بالإِيمان والإِسلام، و{حَقًّا}: صفةٌ لقوله تعالى: {متاعا}.
* ت *: وظاهر الآيةِ عمومُ هذا الحكْمِ في جميع المطلَّقات؛ كما هو مذهبُ الشافعيِّ، وأحمد، وأصحاب الرأْي، والظاهرُ حمل المُتْعَة على الوجوبِ؛ لوجوه، منها: صيغةُ الأمر، ومنها: قولُه: {حَقًّا}، ومنْها: لفظةُ {على}، ومنها: من جهة المعنى: ما يترتَّب على إِمتاعها من جَبْر القلوبِ، وربَّما أدى ترك ذلك إِلى العَدَاوة والبَغْضاء بَيْن المؤمنين، وقد مال بعضُ أئمَّتنا المتأخِّرين إِلى الوجوب. انتهى.
وقوله تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ...} الآية: اختلف في هذه الآية، فقالتْ فرقةٌ، فيها مالك: إِنها مُخْرِجَةٌ للمطلَّقة بعد الفَرْض من حُكْم التمتيعِ؛ إِذ يتناولها.
قوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ}: وقال قتادةُ: نَسَخَتْ هذه الآيةُ الآيةَ الَّتي قبلها، وقال ابن القاسِمِ في المدوَّنة: كان المتاعُ لكلِّ مطلَّقة؛ بقوله تعالى: {وللمطلقات متاع بالمعروف} [البقرة: 241]، ولغير المدخولِ بها بالآيةِ الَّتي في سورة الأحزاب، فاستثنى اللَّه سبحانَهُ المَفْرُوضَ لها قَبْل الدخولِ بهذه الآية، وأثبت لها نصْفَ ما فَرَضَ فقَطْ، وزعم زيْدُ بْنُ أسْلَم؛ أنها منسوخة، حكى ذلك في المدوَّنة عن زيد بن أسْلَم زعْماً.
وقال ابن القاسِمِ: إنها استثناءٌ، والتحرير يردُّ ذلك إِلى النسخ الَّذي قال زيْدٌ؛ لأنَّ ابْنَ القاسِمِ قال: إِن قولَه تعالى: {وللمطلقات متاع} [البقرة: 241] عمَّ الجميعَ، ثم استثنَى اللَّه منْه هذه التي فُرِضَ لها قبل المَسِيسِ، وقال فريق من العلماء، منهم أبو ثَوْر: المُتْعَة لكلِّ مطلَّقة عموماً، وهذه الآية إِنما بينت أن المفروض لها تأخُذُ نصْفَ ما فرض، أي: مع مُتْعَتها، وقرأ الجمهورُ: {فَنِصْفُ}؛ بالرفع، والمعنى: فالواجبُ نصْفُ ما فرضْتُمْ.
وقوله تعالى: {إِلاَّ أَن يَعْفُونَ}: استثناء منقطعٌ، و{يَعْفُونَ}: معناه: يتركْنَ ويصفحْنَ، أي: يتركْن النِّصْفَ الذي وجَبَ لهنَّ عند الزوْجِ، وذلك إِذا كانت المرأةُ تمْلِكُ أمْرَ نَفْسِها.
واختلف في المرادِ بقوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح}.
فقال ابن عَبَّاس، ومُجَاهدٌ، ومالكٌ، وغيرهم: هو الوليُّ الذي المَرْأَة في حِجْره، وقالتْ فرْقَة: الذي بيده عُقْدة النكاح هو الزَّوْج، فعلى القول الأول: الندْبُ في النَّصْف الذي يجبُ للمرأة إِمَّا أن تعفو هي، وإِما أن يعفو وليُّها، وعلى القول الثَّاني: إِما أنْ تعفو هي أيضاً؛ فلا تأخذَ شيئاً، وإِما أن يعفو الزوْجُ عن النِّصْفِ الذي يُحَطُّ، فيؤدّي جميع المَهْر، ثم خاطب تعالَى الجميعَ؛ نادباً بقوله: {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ للتقوى}، أي: يا جميعَ الناسِ، وقرأ عليُّ بن أبي طالبٍ. وغيره: {وَلاَ تَنَاسَوا الفَضْلَ}، وهي قراءةٌ متمكِّنة المعنى؛ لأنه موضع تناسٍ، لا نسيان إِلا على التشْبيه.
وقوله تعالى: {وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل}: ندْبٌ إِلى المجاملة.
وقوله: {إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} خَبَرٌ، وضمنه الوَعْد للمحسِنِ والحِرْمان لغير المُحسن.